الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحـق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الثامن والستين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، ومع الدرس السابع والأخير من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الموضوع الأخير في سيرة هذا الصحابي الجليل هو التواضع الشديد ، والخدمة الفائقة التي كانت تلمح من شخصية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
هذا الصحابي الجليل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، ليس له مكان الصدارة في المجلس ، ينام حيـث يدركه النوم فوق الحصير في داره ، أو فوق الرمال ، أو تحت ظل النخيل ، يأكل ما يجد ، وما يقيم الأوَد لا غير ، شريحةٌ من لحمٍ مقدد ، أو شريحةٌ من خبزٍ مبللةٌ بالزيت متبلةٌ بالمِلح ، هو سعيدٌ حينما يسمع امرأةً أو غلاماً يناديه : يا عمر ، من دون لقب ، وهو في سعادةٍ لو علمها ملوك الأرض لحسدوه عليها ، حينما يرى عجوزاً تحمل مكتلاً يؤودُها حمله يتقدَّم منها ، ويحمله عنها بعض الطريق ، ويضحك ملء نفسه ، وهو يسمعها تقول شاكرةً له : " أثابك الله الخير يا بُنَي ، إنك لأحقُّ بالخلافة من عمر " .
ذات ليلةٍ خرج في جولةٍ من جولاته التي كان يخرج بها وحيداً والناس نيام ليطمئنَّ على قومه ويبلو أحوالهم ، وينفض الليل عن حاجاتهم وعند مشارف المدينة رأى كوخاً ينبعث منه أنين امرأة فاقترب يسعى ، ورأى رجلاً يجلس على باب الكوخ ، وعلِم منه أنه زوج السيدة التي تئن ، وعلِِم أنها تعاني كرب المخاض ، وليس معها أحدٌ يعينها ، لأن الرجل وزوجته من البادية ، وقد حطَّا رحالهما هنا وحيدين غريبين ، رجع عمر إلى بيته مسرعاً ، وقال لأم كلثوم زوجته بنت الإمام علي : يا أم كلثوم هل لكِ في مثوبةٍ ساقها الله إليكِ ؟ هل ترغبين في عمل صالح ؟ قالت : خيراً، قال : امرأة غريبة تمخض ، وليس معها أحد ، قالت : نعم إن شئت .
وقام فأعدَّ من الزاد والماعون ما تحتاجه الوالدة من دقيقٍ وسمنٍ ومزق ثيابٍ يلف بها الوليد ، وحمل أمير المؤمنين القدر على كتف والدقيق على كتف ، وقال لزوجته : اتبعيني ، ويأتيان الكوخ، وتدخله أم كلثوم زوج أمير المؤمنين لتساعد المرأة في مخاضها ، أما أمير المؤمنين فجلس خارج الكوخ ، وينصب الأثافي ( ثلاثة أحجار للطبخ ) ، ويضع فوقها القدر ، ويوقد تحتها النار ، وينضج للوالدة طعاماً ، والزوج يرمقه شاكراً ولعله كان يحدث نفسه هو الآخر بأن هذا العربي الطيب أولى بالخلافة من عمر .
وفجأةً صدح في الكوخ صراخ الوليد لقد وضعته أمه بسلام ، وإذا صوت أم كلثوم ينطلق من داخل الكوخ عالياً : يا أمير المؤمنين بشِّر صاحبك بغلام ، ويفيق الأعرابي من الدهشة ، ويستأخر بعيداً على استحياء ، ويحاول أن ينطق بالكلمتين : "أمير المؤمنين" ، لكن شفتيه لا تقويان على الحركة من فرط المفاجأة ، ويلحظ عمر كلَّ هذا ، فيشير إلى الرجل أن ابقَ مكانك ، لا ترع ، ويحمل أمير المؤمنين القدر ، ويقترب من باب الكوخ منادياً زوجته : خُذي القدر يا أم كلثوم ، وأطعمي الأم وأشبعيها ، وتطعمها أم كلثوم حتى تشبع ، وتردُّ القدر إلى عمر بما بقي من طعامٍ ، فيضعها عمر بين يدي الأعرابي ، ويقول : كُل واشبع ، فإنك قد سهرت طويلاً ، وعانيت كثيراً ، ثم ينصرف هو وزوجته بعد أن يقول للرجل : إذا كان صباح الغد فأتني بالمدينة لآمر لك من بيت المال بما يصلحك ، ولنفرض للوليد حقه ، لذلك قال عنه عليه الصلاة والسلام :" أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ عَلَى قَلِيبٍ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًافَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْعَبْقَرِيُّ : عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ وَقَالَ يَحْيَى : الزَّرَابِيُّ الطَّنَافِسُ لَهَا خَمْلٌ رَقِيقٌ ( مَبْثُوثَةٌ ) كَثِيرَةٌ "*( صحيح البخاري عن بن عمر )
هذه قصة ، قصةٌ من أروع القصص رحمةً وتواضعًا وعدالةً ، يتمتع بها أمير المؤمنين رضي الله عنه .
مرةً كان يمشي في طرق المدينة وقد رأى غِلماناً صغاراً يجتمعون ، وكان صاحب هيبةً شديدة، فلما رأوه تفرقوا ، وقال حينما وصل إلى واحدٍ منهم ، وهو سيدنا عبد الله بن الزبير وكان طفلاً صغيراً ، قال: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير ، لست ظالماً فأخشى ظُلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .
النبي عليه الصلاة والسلام ترك أبطالاً ، ما اجتمعت البطولة في عصر كما اجتمعت في عهد النبي والعهد الذي جاء بعد عهد النبي ، شيء لا يصدق طفل صغير يقف أمام خليفة ويقول له : أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلماً ولست مذنباً فأخشى عقابك والطريق يسعني ويسعك .
سيدنا عمر كان خليفةً للمسلمين وإماماً لهم ، فتح الله له فتحاً مبيناً ، حتى هابته ملوك الأرض، وتدحرجت عند قدميه تيجانها ، وجرت بين يديه الأموال كالأنهار .
زاره وفد العراق ، ومعه الأحنف بن قيس ، فيفاجؤون به ، والحر شديد ، والصيف قائظ ، منهمكاً في تطبيب بعيرٍ من إبل الصدقة ، يطليه بالقطران ، ثم لا يكاد أن يرى ضيوفه ، وفيهم الأحنف حتى يناديه : ضع ثيابك يا أحنف ، وهَلُمَّ فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير .
جاء ضيف ، وهو وفد رسمي يجب أن يستقبله بأفخر مكان ، ويجب أن يكون ثمة طعام طيب، قال له : "ضع ثيابك ، يا أحنف ، وهلمَّ فأعِن أمير المؤمنين على هذا البعير" ، استغرب سيدنا الأحنف ، وكان تابعيًّا ، " فإنه من إبل الصدقة وفيه حق للأمة والمسكين واليتيم" ، فيقول له رجل من الوفد ، وقد أذهلته المفاجأة : "يغفر الله لك يا أمير المؤمنين ، إن عبداً من عبيد الصدقة يكفيك هذا الأمر" ، فهذا ليس عملك فارتَحْ ، فيجيبه عمر : وأيُّ عبدٍ أعبد مني ، ومِنَ الأحنف ، ثم يستأنف تطبيب البعير .
مع كلِّ هذه العظمة التي شدهت نظر العالم ، كان بهذا التواضع ، وهذه الخدمة ، وهذا الحرص، وتلك الخشية من الله عزَّ وجل .
سيدنا عمر حينما توجه إلى بلاد الشام ، واقترب من مشارفها ، وقد خرج أهلها لاستقباله ، فيلقاهم رجل في الطريق ، قد امتطى جملاً ، يجلس فوق وطاءٍ من صوفٍ خشن ، وقد دلَّى رِجليه من شعبتي رحله ، بلا وجافٍ ، ولا ركاب ، يلبس قميصاً من قطنٍ ، كثير الثقوب ، كثير الرقاع ، لما خف أهل الشام لاستقبال عمر في الطريق رأوا رجلاً على ناقة فقيرًا ، ويقبل الناس على هذا الرجل ، ويقولون : أين أمير المؤمنين ؟ ألم تلق موكبه في الطريق ؟ فيجيبهم : أمير المؤمنين أمامكم ، لم يقل : بمقابلكم ، قال : أمامكم فيغضون السير إلى أمام ، حتى يأتيهم الخبر من ورائهم بعد حين أن أمير المؤمنين قد وصل أيلة ، ونزل بها فيعودون مهرولين ، ويدخلون على أمير المؤمنين حيث كان يجلس مع الناس ، وتكاد تصعقهم المفاجأة ، فما أمير المؤمنين إلا الرجل الذي لقيهم يمتطي جملاً، والذي سألوه عن أمير المؤمنين ، فقال : إنه أمامكم ، وهو يقصد نفسه ، هم فهموا (أمام) ، ومشوا إلى الأمام ، ووصل إلى أيلة ، ولما دخلوا عليه رأوا الرجل نفسَه .
ويؤتى له ببرذون مطهم ، عليه سرجٌ جميل ، ورحلٌ أنيق ، بحسب مقامه كخليفة ، فيرفض ركوبه ، ويقول : نحُّوا عني هذا الشيطان ، فإذا قيل له : إن هذه بلاد لا تصلح فيها الإبل ، ثم يركب البرذون ، ولكن بعد أن يجردوه من كل حليةٍ وزخرف ، انزعوا هذا السرج ، وانزعوا هذه الزينة ، وهذه الزخرفة ، وركب البرذون من دون شيء ، وبعد أن يلقي عن ظهره بالسرج الأنيق، والرحل المزركش ، ويضع مكانهما الكساء من الصوف ، الذي كان يتخذه وطاءً له إذا ركب ، ووسادةً ينام عليها إذا نزل .
وفي رحلته الأولى إلى الشام يلقاه على أبواب مدينة القدس قواد جيشه وأمراؤه ، ممتطين صهوات الخيل ، وقد تمنطقوا بحللٍ من الديباج ، فلا يكاد عمر يرى المشهد حتى ينزل من فوق دابته سريعاً ، ويده على الأرض تأخذ من طوبها وحصاها ، ويرمي الأمراء والقواد ، ثم يقبل عليهم قائلاً : "سرعان ما فُتنتم ، أبهذا الزي تستقبلون عمر ؟ سرعان ما ندَّت بكم البطنة ، والترف ، وأنتم الذين لم تشبعوا إلا من عامين" .
فما رضي لهم هذا الوضع ، وتلك الزينة ، وهذا الترف ، وهذه الصحة ، لأنه أرسل مرةً إلى أحد الولاة ، وقال له : " أما بعد ؛ فقد فشت لك فاشية ، فشت لك مركبةٌ ، ليست لعامة المسلمين ، في مركبك ، ومسكنك ، ومطعمك ، ومشربك ليست لعامة المسلمين ، أحذر يا عبد الله أن تكون كالدابة ، مرت بوادٍ خصب ، فجعلت همَّها في السمن ، وفي السمن حتفها ".
ويلتقي ذات ليلةٍ بسيدةٍ تسير وحدها في المدينة ، حاملةً قربةً كبيرةً ، فيقترب منها ، ويسألها عن أمرها ، فيعلم أنها ذات عيال ، وليس لها خادم ، وأنها تنتظر حينما يرخي الليل أستاره ، فتخرج لتملأ قربتها ماءً ، فيأخذ منها القربة ، ويحملها عنها ، وهي لا تعرف من هو ، حتى إذا بلغ دارها، قال ، وهو يناولها قربة الماء : إذا أصبح صباحُ غدٍ فاقصدي عمر يرتِّب لكِ خادماً ، قالت: إن عمرَ كثيرٌ شغله ، وأين أجده ؟ قال : اغدِي عليه ، وسوف تجدينه إن شاء الله تعالى"، وتعمل بمشورة الرجل الطيب ، لكنها لا تكاد تذهب إلى عمر وتقف بين يديه حتى تصيح مبهورةً : أأنت هو إذاً ؟ ويضحك أمير المؤمنين ، ثم يأمر لها بخادمٍ ونفقةٍ .
أيها الإخوة الكرام ... أحياناً الإنسان يفعل مثلَ هذا ، يفعل هذا استعراضاً ، يفعل هذا تمثيلاً ، يفعل هذا لينتزع إعجاب الناس ، لكن هذا الخليفة العظيم حينما فعل هذه المواقف المتواضعة كان يحرص فيها على طاعة الله عزَّ وجل ، وعلى خدمة الخلق ، أليس هو القائل مرةً لأحد الولاة : "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ فقال هذا الوالي وفق السنة والشريعة : أقطع يده ، قال عمر : إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك ، قال له : يا هذا إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدَّ جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفِّر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ".
وبعد ألف سنة أو أكثر كتبت حقوق الإنسان ، ومن هذه الحقوق حق العمل ، قال : إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية .
لذلك أيها الإخوة لا أرى عملاً أعظم في هذه الدنيا من أن توفِّر الأعمال للشباب ، الشاب حينما يعمل يصير له دخل ، فيفكر في الزواج ، حينما يتزوج فتاة شاردة قلقة مضطربة ، أبوها أشد قلقاً، أمها أشد قلقاً ، فإذا خطب هذا الشاب الذي له عمل هذه الفتاة ، أسسا أسرة ، الآن بنيتْ لبنةٌ في الإسلام أسرة ، وهذا الشاب حينما عمل ، وصار له دخل تزوج ، ولما تزوج حل مشكلة فتاة، وهنا حلت مشكلته عن طريق هذا العمل ، لهذا توفير الأعمال للناس عملٌ عظيم وما قوله تعالى :
( سورة : النور آية " 32 " )
آية قرآنية ، ما نوع فعل أنكحوا ، وما معناه ؟ أنكحوا أي زوجوا ، وهذا فعل أمر ، فالله عزَّ وجل يأمر مَن ؟ هذه واو الجماعة ، أنكحوا ، أي زوجوا الأيامى ، الأيامى جمع أيِّم ، فمَن هو الأيم ؟ هو الإنسان الذي لا شريك له ، أي امرأة أيِّم ليس لها زوج ، أو شاب ليس له زوجة ، الشاب اسمه أيم ، والفتاة اسمها أيم ، والمرأة المطلقة اسمها أيّم ، والأرملة اسمها أيّم ، والعزباء اسمها أيّم ، والشاب الأعزب اسمه أيّم ، والمتزوج الذي توفيت زوجته اسمه أيم ، أيٌ من الجنسين، ذكرًا كان أم أنثى ، ليس له زوجة أو زوج ، فهذا هو الأيِّم ، الأمر الإلهي :
( سورة : النور آية " 32 " )
فهذا الأمر حينما وُجِّه للمجموع بدليل واو الجماعة ، فمَن هم المقصودون ؟ الشيء البديهي المجتمع المسلم ، أي يا أيها المؤمنون أنكحوا الأيامى منكم ، ماذا يفعل الإنسان الذي عنده بنت ، كيف يزوجها ؟ لم يأتِها خاطب ، عنده شاب وليس معه ثمن بيت يزوجه فيه ، فالأمر في علم الأصول إذا وجِّه إلى مجموع الأمة فهو موجهٌ حكماً إلى أولي الأمر فيها ، ماذا يعني هذا الأمر لأولي الأمر ؟ إنّ الله عزَّ وجل خاطب أولي الأمر : يا أولي الأمر أنكحوا الأيامى ، هل تصدقون ما معنى هذا الأمر ؟ توفير الأعمال ، وتوفير البيوت ، فإذا وجد الشاب عملاً ، ووجد مسكنًا تزوج على الفور ، وإذا قلَّ الزواج راجَ السفاح ، وإذا كان الزواج مسدوداً صارت طرقُ السفاح سالكةً .
واسأل الآن شخصًا يعمل في الأمن الجنائي ، لماذا نسبُ الدعارة مرتفعة جداً ؟ لماذا نسب الجريمة مرتفعة جداً ؟ لأنه كلما ضاقت سبل الزواج ، وسبل العمل حلَّ محلها سبل السرقة والزنا، وبالمناسبة لماذا الربا محرم أشد التحريم ؟ لأن المال في الربا يلد المال ، وأنت قاعد تضع هذا المبلغ في البنك ، وتأخذ ربحًا عليه مجزيًّا ، أما لو فتحت محلاً تجاريًّا فأنت تريد محاسبًا ، وتريد موظفًا ، تحتاج لفواتير ، تحتاج لمطبعة ، تحتاج إلى وسيلة نقل للبضاعة ، تحتاج إلى مستودع ، يمكن لمحلٍّ صغير أنْ يشغل عددًا كبيرًا من العمال ، والآن فأنا لا أبالغ ، وأنت لا تدري .
لذلك كلُّ طريقةٍ يلِدُ المال فيها المال أورثتْ البطالة في المجتمع ، والآن أكبر مشكلة في العالم هي البطالة ، وقد يقول لك شخص : أنا معي مليون ، أو عشرة ملايين ، والفائدة بالمائة ثمانية عشر ، المليون يعطي مائة وثمانين ألفًا ، العشرة ملايين تعطي مليونًا وثمانمائة ألف ، وهذا المبلغ يكفي مصروفًا طوال السنة ،فلا داعي لأعمل ، حينما وضع هذا المبلغ في البنك لم يعد أحد يشتغل ، فانتشرتْ البطالة ، هو يعدُّ عالة على المجتمع ، لماذا ؟ فإنْ كان غنيًّا لم يقدِّم أيَّة خدمة للأمةِ ، فالجار مثلاً صنع بابًا، والحاك قدّم ثيابًا ، فهذان قدّما خدمةً للناس ، أمّا المرابي فلم يقدِّم للمجتمع شيئًا ، وهذه قضية اقتصادية ، انظر ودقق في الآية :
( سورة : النور آية " 32 " )
يا أيها الناس ، هذا الأمر موجَّه إلى مجموع الأمة ، وهو إذًا موجَّه حكماً لأولي الأمر ، مهمتهم أن يوفِّروا المساكن والأعمال ، قال له : "إنَّ هذه الأيدي خلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية" .
كل إنسان له حقٌّ في العمل ، وتوفير الأعمال عمل إنساني ، هذا عمل إنساني طيب ، فالشاب لما توفر له عملاً يفكر في الزواج ، أولاً يقلُّ الزنا والأعمال الإجرامية ، فكما يقول سيدنا علي بن أبي طالب: " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ؛ عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلّم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره ".
كلمة سيدنا عمر :" إن هذه الأيدي خلقت لتعمل" ، وتوفير الأعمال للشباب هذا أعظم إصلاح اقتصادي ، لذلك الزكاة التي يدفعها المسلمون أكمل ما فيها أن تحوِّل قابض الزكاة إلى دافع الزكاة، الإنسان عندما أنتج ، دفع زكاة ماله ، وأنقذ غيره ، وهذه لفتة من لفتات سيدنا عمر قال : " إن هذه الأيدي خلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ".
من لفتاته أيضاً مواقف تدل على عمقٍ في الرؤية ، فقد نصح بعض الولاة ، وقال له : " لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويُّهم ضعيفَهم ".
أنت مدير مستشفي فرضاً ، إذا كان أي إنسان يتمكن مِن أن يصل إلى المدير ، والباب مفتوح، لم يعد أيّ طبيب مثلاً ، أو موظف ، ، أو محاسب في هذا المستشفى أن يُسيء ، وعلى الفور تقدم شكوى ضده لمديره العام ، أما إذا مُنِع أن تقابل المدير العام ، فكل هؤلاء الموظفين يفعلون ما يشاؤون :" لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويُّهم ضعيفَهم" .
يقولون : في معركة نهاوند ، والقصة مروية بروايتين ، المسلمون كانوا ثلاثة وثلاثين ألفًا ، وكان الجيش الفارسي مائة وثلاثين ألفًا ، ليس بين القوتين تناسب ، فكان سيدنا عمر يُرى في المدينة يمشي ذهاباً وإياباً ، وهو في قلقٍ شديد ، وكان لا يستطيع أحد أن يكلمه من شدة هيبته ، لأنه قلق على جيش المسلمين ، ويتمنى لهم النصر ، ولكن الفرق كبير بين أعداد المسلمين وأعداد الكفار ، إلى أن جاء رسول من نهاوند ، وذكر له أن الأمير قُتل، ونائبه قتل ، ومات خلقٌ كثير، وذكر أسماء بعضهم ، ثم قال: مَن هم الذين ماتوا أيضاً ؟ ثم قال : يا أمير المؤمنين إنك لا تعرفهم بأسمائهم ، عندئذٍ بكى عمر بكاءً شديداً وقال : وما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ، هذا هو الإخلاص لله ، "وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم" .
ولا ننسى ما قاله لذلك الرجل : "إني لا أعرفك" ، حتى لا يهينه قال له : "ولا يضرك أني لا أعرفك" ، هذا لا يقدح من مكانتك أني لا أعرفك .
على كلٍ أيها الإخوة ... لله درُّ هذا الصحابي الجليل الذي كان مثلاً أعلى في البطولة ، وفي التواضع ، وفي العدل ، وفي الشجاعة ، والإقدام ، وفي الإدراك العميق للأشياء ، نحن لا نقرأ هذه السير إلا من أجل أنْ نقتدي بها في حياتنا اليومية ، الحقيقة أنّ الدين ليس قصصاً تتلى ، ولا متعةً تستفاد ، إنما هي دروسٌ وعبر نأخذها من أجل أن تكون قدوةً لنا في حياتنا ، وأنا أنصح إخوتنا الكرام أن يقفوا عند السيرة وقفةً متأنيةً متأنية .
لمّا جاءه جبلة بن الأيهم مسلماً وهو مَلِك من ملوك العرب ، سيدنا عمر رحّب به ، ولماذا رحّب به ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " أنزلوا الناس منازلهم " ، ومن الأدب أن تعطي كل ذي حقٍ حقه ، ولكل إنسانٍ مكانته ومقامه ، رحّب به أشد الترحيب ، وفي أثناء الطواف بينما كان جبلة يطوف البيت ، فإذا ببدويٍ من فزارة يدوس طرف ردائه دون أن يقصد ذلك ، فانخلع الرداء من على كتف هذا الملك ، فالتفت نحو هذا الإعرابي وضربه ضربةً على أنفه فهشمته ، هذا البدوي من فزارة ليس له إلا أمير المؤمنين ، فتوجه إليه شاكياً ، فما كان من عمر الخليفة إلا أن استدعاه ، وقال : أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح ، قال : نعم ، لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدّبتُ الفتى ، أدركت حقـي بيدي ، أنا ملك ، قال له : أرضِ الفتى ، لا بدَّ من إرضائه ، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشِّمنَّ الآن أنفك ، (أي خاطب الملك) ، وتنال ما فعلته كفك ، فصعق جبلة وقال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟ هو سوقةٌ ، وأنا عرشٌ وتاج ، هذا من عامة الناس ، وسوقتهم ، ودهمائهم ، وعامتهم ، وأنا عرشٌ وتاج، كيف ترضى أن يخِرَّ النجم أرضًا ، قال له سيدنا عمر : هذه نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدًا ، قال جبلة : كان وهماً ما جرى في خلدي ، أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني ، فقال له سيدنا عمر : عنق المرتد بالسيف تحزُّ ، عالمٌ نبنيه ، كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد الصعلوك تساوى ، عدل ورحمة .
كذلك قال لهم : " أيها الناس ، لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ، ولكم علي ألا أنفق من هذه الأموال شيئاً إلا بحقه ، وإذا غبتم في البعوث ، فأنا أبو العيال حتى ترجعوا " .
فيا أيها الإخوة الكرام ، الذي أرجوه من الله عزَّ وجل أن تكون هذه السير سير الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قدوةً لنا في تعاملنا ، فكلما وقفت على موقفٍ دقيقٍ دقيق اسأل نفسك هذا السؤال : أنا ماذا فعلت حيال هذا الموقف ، هل قلدته ؟ هل كنت بهذا التواضع ؟ هل كنت بهذا الإنصاف ، وبهذا العدل ؟ هذا الذي ينفعنا من قراءة السيرة ، ومن دراستها ، لأنها والله إسلامٌ مجسَّد ، وكما كنت أقول لكم دائماً : إذا كان الكون قرآناً صامتاً ، وإذا كان القرآن كوناً ناطقاً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي ، وصحابته رضوان الله عليهم مسلمون متحركون ، أتريد أن ترى مسلماً حقيقياً متألقاً ؟ انظر إلى صحابة رسول الله ، هذا هو المؤمن المسلم ، أحيانا تشاهد رقص ميلوية ، فهل هذا هو الإسلام ؟ يلبس ثوبًا فضفاضًا ، فلما يدور دورة سريعة يصبح مثل المظلة ، هذا هو الإسلام ؟ فهل الإسلام رقص ؟ ودوران ؟ وطرب ؟ ومظاهر ؟ حقيقة الإسلام كما كان أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
فهذه السيرة ميزتها أنْ يترسب بأعماق كيانك نموذج كامل للمسلم ، هذه أحوال سيدنا عمر ، وقد فعل ما فعل ، بجرأةٍ وتقشفٍ ، وكبرياءٍ ، وعلو شأنٍ ، سيدنا عمر رأى واحد حانِيًا رأسه وكتفه فعلاه بالدرة ، وقال له : يا هذا لا تُمِتْ علينا ديننا ، الإسلام عزيز ، فارفع رأسك ، فمظاهر التذلل والخضوع والخنوع هذه مرفوضة عند سيدنا عمر .. أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا ويلهمنا رشدنا إنه على ما يشاء قدير ، والحمد لله رب العالمين .